0:00
في الوحدة السابقة تعرفنا على آلية تسمى "الانتباه" المسؤولة عن تحديد المعلومات
التي تدخل إلى عقولنا وتخضع لمعالجة عميقة والمعلومات التي تخضع لمعالجة سطحية فقط.
أما في هذه الوحدة فسنتحدث عما يحدث للمعلومات
التي تدخل إلى العقل وإلى أي حد تشبه المثير الموجود في العالم الخارجي.
عندما نحاول وصف عقولنا، فنحن نستخدم كثيرًا المصطلح "تمثيل".
Representation.
ما هو التمثيل؟
تقوم عقولنا بإنتاج تمثيل للعالم الخارجي لمعلومات نستقبلها بواسطة جهاز الإحساس.
إلى أي حد يعد التمثيل الذي تنتجه عقولنا مطابقًا للعالم الخارجي؟
على سبيل المثال، دعونا ننظر إلى هذا المثير.
في الرسم الذي ترونه أمامكم هناك خيطان وعليهما خرزتان، أليس كذلك؟
ولكن ربما كان هذا دبًا يتسلق شجرة؟
أتستطيعون رؤية قدميه؟
هل يمكنكم الآن رؤية الخرزتين مرة أخرى؟
لم نغير شيئًا في الرسم، في المثير الذي دخل إلى الدماغ،
وإنما في التفسير الذي قدمناه له، وبهذه الطريقة غيرنا تمثيله في العقل.
دعونا نأخذ مثالاً آخر.
في دراسة أجريت عام 1930 تم عرض الصور التالية على المشاركين في الدراسة وطلب منهم
تذكر هذه الصور حتى يتمكنوا فيما بعد من رسمها من ذاكرتهم.
عُرِضت على المجموعة الأولى إلى جانب الصور الكلمات المكتوبة إلى اليمين:
ركاب سرج، الحرف C، أثقال.
أما المجموعة الأخرى فعُرض عليها إلى جانب الصور الكلمات المكتوبة إلى اليسار: قنينة، هلال، نظارات.
وعند النظر إلى الصور التي رسمها المشاركون من ذاكرتهم،
لوحظ أن رسوماتهم تتناسب مع الوصف اللفظي لها.
أي أن الرسم نفسه قد تم تفسيره بشكل مختلف
وبالتالي فإن تمثيله في العقل كان مختلفًا بسبب الوصفي اللفظي المقترن به.
وهذا يعني في حقيقة الأمر أن تمثيل العقل للعالم الخارجي لا يكون مطابقًا بالضرورة للمثير،
إذ إنه يتأثر بعمليات عقلية تقوم بتفسير المعلومات الداخلة إلى العقل وفقًا للسياق.
أي أن التمثيل يساوي المثير بالإضافة إلى التفسيرات التي يقدمها العقل له.
وتستند استجابتنا أو سلوكنا إلى التمثيل الناتج وليس إلى المثير مباشرة.
يمكن تفسير الظواهر التي رأيناها الآن
بواسطة عمليات تسمى bottom up و top down.
عمليات bottom up تتأثر بالمثير نفسه الذي يدخل
عن طريق جهاز الإحساس إلى الدماغ ومن المفترض أن يكون متشابهًا لدينا جميعًا.
أما عمليات top down فهي عبارة عن المعرفة، الأفكار، الذكريات، المشاعر والتوقعات
الموجودة في عقولنا والتي تؤثر على الطريقة التي أقوم بها بتمثيل المعلومات التي تدخل عن طريق جهاز الإحساس.
التمثيل الناتج هو مزيج من هاتين العمليتين.
وهذا يعني أنه لا يكون مطابقًا أبدًا للمثير الداخل للعقل.
إذ إنه يتأثر دائمًا بعمليات top down.
إن أخذنا على سبيل المثال الأٰشخاص ذوي الخبرة في تذوق النبيذ، فإن الطريقة التي يمثلون بها
مذاق النبيذ ورائحته هي أغنى بكثير من طريقة تمثيل شخص تعوزه هذه الخبرة لهما.
المثير واحد، ولكن تمثيله في العقل يختلف وفقًا للمعرفة التي أمتلكها.
إن الصور التي نمثل بها العالم في عقولنا ديناميكية وتتغيير وفقًا لعمليات top down.
وتختلف من شخص لآخر باختلاف المعرفة أو الثقافة التي ينتمي إليها الشخص، وبالطريقة ذاتها
يمكن أن تتغير هذه الصور من حينٍ لآخر لدى الشخص نفسه وفقًا لحالته النفسية أو لمعرفة جديدة اكتسبها من العالم.
كما تتجلى عمليات bottom up وtop down في عمليات الانتباه التي تحدثنا
عنها في الوحدة السابقة.
قلنا إن الانتباه يتأثر بالسمات الفيزيائية للمثير بحيث
يجذب المثير البارز أو التغير في المثير الانتباه.
هذه العملية التلقائية تتم بواسطة عمليات bottom up.
وبالمقابل، إن تم ذكر أمور ذات أهمية بالنسبة لنا في الجانب الذي لا نصغي إليه،
ونتج عن ذلك لفت انتباهنا إليها فإن هذه العملية تتم بواسطة عمليات top down.
حتى الآن تحدثنا عن الفجوة بين المعلومات التي تدخل إلى عقولنا،
عن طريق الحواس وعن طريقة تمثيلنا لها.
ولكن لا ينبغي أن تأتي المعلومات من الخارج لكي نتمكن من تمثيلها.
عقولنا قادرة على إنتاج صور بنفسها.
مثلاً، الصور العقلية.
تعالوا نجري تدريبًا.
تخيلوا الحرف الرابع من ال-ABC، قوموا بإدارته 90 درجة عكس عقارب
الساعة، ثم صلوا به من الأسفل الحرف العاشر من ال-ABC.
ما الذي نتج لديكم؟
كما رأيتم، يمكننا استخدام المعلومات التي نمتلكها عن العالم،
لإنتاج صور غير موجودة في العالم الخارجي.
ولكن ما الذي يميز الصورة العقلية التي ننتجها؟
هل هي صور بصرية أم حرفية؟
مثلاَ، عندما أطلب منكم تخيل شمسية
هل تتخيلون معنى كلمة شمسية أم صورة شمسية؟
الجدل الأطول في هذا المجال دار بين باحثين هما كوسلين وبيليشن.
ادعى كوسلين أن التصور العقلي هو تمثيل
ناتج عن الآليات ذاتها التي نستخدمها في عملية الإدراك.
أي أننا نستخدم نظام البصر لإنتاج صور عقلية بصرية.
مثلاً، تخيلوا وجه أمكم.
أما نظام السمع فنحن نستخدمه لتخيل صور سمعية.
مثلاً، تخيلوا نباح كلب.
أما نظرية بيليشن فتذهب إلى أن التصور العقلي
لا يستند إلى نظام الإدراك وإنما إلى معرفة رمزية نمتلكها عن العالم.
وهذه المعرفة لا ينبغي أن تكون بالضرورة معرفة ملموسة وإنما معرفة لفظية.
كيف يمكننا أن نحدد من منهما على صواب؟
لا يمكننا الوصول إلى هذه التصورات العقلية.
كيف يمكننا أن ندرسها بشكل موضوعي؟
لاختبار إن كنا نستخدم نظامًا واحدًا لإدارك المثيرات
وكذلك لإنتاج صور عقلية لها، طلب كوسلين من المشاركين في
التجربة تأمل خريطة تم تعليم بعض النقاط عليها.
ثم طلب من المشاركين تخيل الخريطة ووضع أنفسهم في إحدى النقاط المحددة على الخريطة.
وفي المرحلة التالية تم طرح أسئلة على المشاركين عن النقاط المحددة الأخرى وتم قياس زمن استجابة المشاركين
كدالة في المسافة بين النقاط على الخريطة بالنسبة للمكان الذي تخيلوا أنفسهم فيه.
مثلاً، قف بجانب البيت.
هل على الجزيرة شجرة؟
هل على الجزيرة بحيرة؟
توصلت التجربة إلى أنه إن كانت الشجرة أقرب إلى البيت من البحيرة
فإن زمن الاستجابة يكون أسرع عند السؤال عن الشجرة منه عند السؤال عن البحيرة.
استنتج كوسلين أننا نقوم بمسح الجزيرة كصورة في عقولنا
ولذا فإن هناك أهمية للموقع المكاني على الخريطة.
وبالمقابل فقد أظهرت دراسات أخرى أن هناك فروقات بين الإدراك والتصور العقلي.
على سبيل المثال، طُلب من مشاركين في تجربة تخيل الصور التالية،
وطُلب منهم تدويرها في مخيلتهم بتسعين درجة باتجاه عقارب الساعة.
حاولوا ذلك بأنفسكم.
ما الذي نتج لديكم؟
عندما تحاولون القيام بذلك بأنفسكم، التصور العقلي صعب جدًا.
ولكن إن قمنا بتدوير الصور بتسعين درجة فسترون بسهولة أن
حصان البحر قد تحول إلى حلزون وأن البطة قد تحولت إلى أرنب.
وهكذا فقد استنتج الباحثون أن النظام المسؤول عن إنتاج الصور العقلية لا يعتمد فقط على نظام الإدراك.
نلخص: لاحظنا وجود فجوة كبيرة بين المعلومات التي تدخل إلى العقل وبين
الطريقة التي نمثلها بها.
عملية التمثيل هي مزيج من المعلومات التي تدخل إلى العقل بواسطة عملية bottom up
مباشرة من المثيرات التي يستقبلها جهاز الإحساس، وعمليات top down التي تشمل المعرفة،
التوقعات، الذكريات، الأفكار والمشاعر التي نحملها.
علينا أن ندرك أن هناك فجوة بين المثير نفسه وبين طريقة تمثيله.
حيث أن ما يؤثر في نهاية الأمر على سلوكنا، وذلك على خلاف ما ادعى السلوكيون،
هو التمثيل وليس المثير.
سنتحدث عن الفجوة بين المثير وطريقة تمثيله في الوحدة القادمة التي تتناول موضوع الذاكرة.