بدأنا هذه الوحدة المخصصة لعلم اللغة الاجتماعي بالحديث عن الثنائية
اللغوية. ثم مررنا ببعض أهم المتغيرات الاجتماعية ذات الأثر اللغوي.
وسنحاول في هذا الجزء الأخير ربط ما تعلمناه في الجزأين
السابقين بالعمل الإعلامي مع التركيز على مثالين اثنين لحالتين
اجتماعيتين تجسدان التداخل الوثيق بين اللغة ومتغيرات المجتمع.
نسلم خطأً أحياناً بتواجد لغةٍ افتراضيةٍ يستخدمها الإعلاميون في كل زمان ومكان.
ويعلم محترفو الإعلام بأن هذا الافتراض بعيد عن الواقع.
تخيلوا قيامكم بترجمةِ مقالٍ نقديٍ عام موجهٍ
لرئيس الوزراء البريطاني مثلاً إلى اللغةِ العربية.
ثم تخيلوا تغيير الشخص المستهدف ليصبح حاكماً عربياً أو إفريقياً أو أسيويا.
هل سيحتفظ المقال بنفس التأثير ونفس درجة القبول ونفس النتائج؟
لا شك أن ذهننا يقودنا أولاً للتفكير في موضوع الحريات الصحفية والإعلامية.
وهذا في حدِ ذاتهِ معطًى اجتماعي غايةٌ في الأهمية
لأنه من أكبر ما يُحددُ استخدامنا للغة في مجالات النشر والإعلام.
وقد يُجبر الإعلامي على تغيير استخدامهِ للغة كشرطٍ
لقبول مقالاته أو إذاعةِ برامجه أو تبني أفكاره.
وفي حالاتٍ كثيرة، يتعرض المخالفون من المؤسسات
الإعلامية ومحترفي الإعلام للضغط أو العقاب.
ولكن الأمر لا يقتصر فقط على مسألة الحرية الإعلامية.
فهو يتعداها، لما يتم التعارف عليه اجتماعياً من
قواعد عامة للاستخدام "السليم" للغة.
قد يُلامُ الإعلامي من أكثر الناس توافقاً معه في الرأي
إن أخل بما تم التعارف عليه اجتماعياً من أدبيات مخاطبة ذوي
السلطة السياسية أو من يُعتبرون رموزاً وطنية.
وسيحصل ذلك بالتأكيد إن أخل أي من الإعلاميين بما تعارف عليه المجتمع
من أصول الخطاب الموجه للمرأة والطفل والأسرة مثلاً.
علم اللغة الاجتماعي -دور محترفي الإعلام
نصل أخيراً لدور محترفي الإعلام.
فمن المهم الإشارة إلى أن مواءمة الخطاب اللغوي مع المتغيرات
الاجتماعية مهارةٌ نكتسبها تلقائياً، وقد لا نحتاج للتفكير بها أو استحضارها بشكل واعٍ.
ولكن من المهم جداً أن يطور الإعلامي حسه النقدي ليبرز للسطح
أي اختلالاتٍ في استخدام اللغة في علاقتها مع المتغيرات الاجتماعية المحيطة بها.
نفترض وجود نوعين من الإعلاميين.
يتشكل النوع الأول من الإعلاميين الذين يمارسون مهنتهم
في إطار ظروف نشأتهم وتعليمهم.
ويكتسب هؤلاء المحددات الاجتماعية للغتهم
ويمارسون عملهم في إطارها بدون الحاجة لمراجعات واعية دائمة.
ويتشكل النوع الثاني من أولئك الذين يواجهون بعض
الصعوبات في تحديد المناسب والمتعارف عليه اجتماعياً لاتباعه.
ويندرج في هذا الإطار من يمارس الإعلام خارج محيط نشأته وتعليمه
ويكون من اللازم عليه القيام بمعالجات واعية مستمرة لمنتجه الإعلامي.
وتعتبر هذه الصعوبات مؤقتةً بحكم قدرة
الإعلامي على التكيف ولكنها تظل مهمة بسبب الدينامية المتسارعة
التي يشهدها الحقل الإعلامي العربي والتي يرافقها تبادل للأطر
الإعلامية عبر الدول وخصوصاً من غرب وشمال العالم العربي إلى خليجه.
يصبح هذا التقسيم الافتراضي ذا مغزى إذا ربطناه
بالخطرين الاثنين اللذان يواجههما كل إعلامي.
ففي الحالة الأولى والتي يعمل من خلالها الإعلاميون ضمن المحددات
الاجتماعية التي نشأوا عليها، يكون الخطر في الانصياع الملتزم
بهذه المحددات والاستكانة لها لدرجة تمنع الإعلامي من القيام بدوره
المحوري في النقد وفي المساهمة في الدفع بالمجتمع للتفكير والتغير والتطور.
أما الحالة الثانية والتي يعمل من خلالها الإعلامي في بيئة
غريبة، يكون الخطر في إسقاط تجارب الوسط الأصلي على الوسط الجديد
ويزيد ذلك من إمكانية حدوث مخالفاتٍ لغويةٍ اجتماعية، قد
تؤدي لعزوف المتلقي عن المحتوى الإعلامي أو في حالةٍ قصوى، لفشل الإعلامي في عمله.
يمكن التلخيص بالقول
بأنه على الإعلامي أن يكون من جهة متمكناً من لغته في
إطارها الاجتماعي ليقوم بدوره الإعلامي والتواصلي بنجاح،
وأن يكون من جهة أخرى قادرا على تسخير فهمه النقدي لعلاقات اللغة
بالمتغيرات الاجتماعية ليقوم بدوره التوعوي وليساهم في صناعة الثقافة.
مثال: الإعلامي والسلطة الدينية
يعرف الإعلاميون صعوبة التطرق للمواضيع الدينية
وذلك بالنظر لتنوع المؤثرات الاجتماعية التي تتدخل في صناعة الخطاب الديني الإعلامي.
ولعل العاملين الأساسيين المتدخلين هما تأثيرات
السلطة السياسية وتأثيرات السلطة الدينية.
تأثير السلطة السياسية على الإعلامِ معروفٌ وأصيل.
فقد اعتدنا أن يمارس الساسة وصناع القرار في كل بقاع العالم
ما أمكنهم من الضغط على المؤسسات الإعلامية وعلى الإعلاميين
مستندين على قوة سلطتهم وسلطة جماعات الضغط الاقتصادية التابعة لهم.
وقد يُمارسُ الضغطُ بشكلٍ مباشرٍ بوسائل قمعية
حيث تتعرض المؤسسات الإعلامية في الكثير من الأحيان للإغلاق
ومصادرة الممتلكات ويتعرض الإعلاميون لعقوباتٍ سالبة للحرية.
كما يمكن أن يُمارسُ الضغطُ بطريقةٍ غير مباشرةٍ
حيث تخشى المؤسسات الإعلامية من فقدان وسائل استمرارها من مصادر
التمويل وعقود الإعلان التي تتحكم بها مصادر السلطة والنفوذ.
ولكن تأثير السلطة الدينية مهمٌ جداً كذلك
من حيث مساهمته في تشكيل المساحة الإعلامية المخصصةِ لمناقشة أمور الدين.
والمقصود بالسلطة الدينية تلك المكانة المعنوية التي
يتمتع بها العلماء والمشايخ ورجال الكنيسة والتي لا يمكن
للإعلامي في ظلها طرح بعض الأسئلة الصعبة أو نقد الخطاب الديني.
وهي تتضمن أيضاً توقعات الجمهور الذي يعطي للمشايخ
والعلماء ورجال الكنسية مكانتهم المذكورة ويتوقع
بالمقابل السكوت والتأكيد والإذعان من طرف رجال الإعلام.
والملاحظ أن الإعلاميين في العالم العربي عموماً، بدأوا
يهجرون مجال العمل الإعلامي على المسائل الدينية.
فهناك إعلاميون كُثُر متخصصون بالسياسية وآخرون مختصون بالرياضة وآخرون بالاقتصاد.
ولكن لا يتوفرُ إلا ندرٌ يسيرٌ ممن يمكن تسميتهم بإعلاميي الدين.
وغرابة التسمية في حد ذاتها دليلٌ على ندرة من يختص بشؤون الدين من الإعلاميين.
ولو ادعى إعلاميٌ بأنه إعلاميٌ ديني فلابد وأنه
سيُسألُ على الفور عن سيرته العلمية وعما إذا كان عالم دين.
وقد يُطالبُ ببيان ما يجعل الناس يثقون بعلمه.
ويكون الصحفي أو الإعلامي إن وُجِد شخصية ثانوية لا دور لها تقريباً
إلا نقل ما يرد من أسئلة الجمهور.
ويعود هذا الواقع لتناول الإعلام المستمر للشؤون
الدينية من باب التشريعات والحدود ولقلة تناولها من
زاوية الحياة اليومية للمواطنين ولمستجدات العصر.
فكلما ركزنا على الأحكام والتشريعات ينكمش دور
الإعلامي لأنه لا مجال عادةً لمناقشتها أو الخوض فيها،
فهي معطياتٌ ثابتة يُعتبر قبولها من أبواب الإيمان والعقيدة.
ولو أدلى الإعلامي برأيه لتعرض لأشد أنواع الانتقاد
بداعي أنه لا يجوز الحديث بأمور الدين إلا لمن تبحر في علومه.
ولذلك، يستفرد المشايخ والعلماء ورجال الدين بالتعليق على الأحكام
والتشريعات الدينية بشكلٍ حصري، ويوافقهم معظم المتدينين من الجمهور في ذلك.
وبالتالي يصبح دور الإعلامي بحسب المحددات الاجتماعية للموضوع
مقتصراً على التقليل من الكلام وترك الفرصة للعارفين بأمور الدين للإدلاء بدلوهم.
من العلامات اللغوية المرتبطة بالخطاب الإعلامي في هذه الحالة
استعمال ألقاب التبجيل تكريماً لرجال الدين وغياب عبارات الاعتراض
وأسئلة الاستيضاح. ومن العلامات أيضاً كثرةُ الكلمات ذاتِ النبرة
التعاونية التأكيدية لكلام العلماء وتجنب مقاطعتهم وترخيم
الصوتِ وخفضه والتقليل من حركات اليد وتحريك الرأس كناية على التوافق
إلى غير ذلك من المظاهر اللغوية لسانيةً كانت أم جسدية.
أما حين يكون التركيز منصباً على علاقة الدين بمعيش الناسِ
وأمور حياتهم ومستجداتها، تكون هنالك فرصة أوسع
للإعلامي للبحث والتنقيب والنقد وتوجيه الأسئلة لعددٍ أكبر من المصادر.
قد تتجاوز هذه المصادر رجال الدين.
وفي هذه الحالات، يعود الإعلامي لدوره
في طرح الأسئلة والتفكير النقدي ودمج الرؤى والاستنتاج.
ولكن يجب التأكيد بأنه كلما تم الابتعاد عن مجال
الأحكام، كلما نُعِتَ الإنتاج الإعلامي بأنه قليل الجدية.
في المثال الثالث الذي سنورد رابطه أدناه
نستشهد ببرنامج "خواطر". ويجب التنويه على أن
برنامج "خواطر" ومقدمه قد عانيا من الكثير من النقد وبالخصوص
لأن المقدم "أحمد الشقيري" قد أقر بدايةً بأنه ليس عالم دين.
الكثيرُ من الناس لم يستسيغوا تناول من ليس بعالمٍ للمواضيع ذات الصلة بالدين.
مثال: الإعلامي وصورة المرأة
ربما لاحظتم أنني استخدمت
مصطلحات "رجال الدين" و "رجال الإعلام" و "رجال الكنسية" في المثال السابق.
وهذا من أمثلة تخصيص الجنس الذكوري بوظائف معينة، كما أسلفنا سابقاً.
كما قد يكون ذلك بسبب عدم توفر كلمة محايدة تجمع الرجال والنساء،
وهذا واقع لغوي أيضاً، يدل على عدم حيادية اللغة، على مستوى النوع.
لن نضيف الكثير لما تم التطرق إليه في الجزء السابق.
ولكن سنعمل معاً على تحليل حملة إعلانية لإحدى الشركات عبر التطبيق الموالي.