ما هو علم النفس إذن؟
لنبدأ بالغاية التي يسعى العلم لتحقيقها.
الغاية التي يسعى العلم لتحقيقيها هي تفسير الكيفية التي تجري بها الأمور في العالم.
على سبيل المثال، تفسير كيفية خلق العالم، هل تدور الكرة الأرضية حول الشمس أم العكس،
ما سبب تعاقب الليل والنهار، كيف خُلق الإنسان.
هل العلم وحده يحاول تفسير ما يحدث في العالم؟
بالطبع لا.
الكتب الدينية والعديد من الحكماء حاولوا الإجابة عن هذه الأسئلة الأساسية على مدى التاريخ.
ولقد قاموا بالفعل بتقديم إجابات عن هذه الأسئلة الكبرى حول كيفية خلق الكون، والإنسان
والحيوانات والنباتات بالإضافة إلى وظيفتنا نحن البشر في هذا العالم.
إن كانت لدينا هذه الإجابات، فلم نحن بحاجة للعلم؟
الشخص الذي يصف الفرق بين الكيفية التي يجيب بها العلم وتلك التي تجيب بها المصادر
غير العلمية عن عن هذه الأسئلة بشكل مذهل ومثير للإلهام هو البروفيسور يوفال نوح هراري
في كتابه "مختصر تاريخ الجنس البشري" في الفصل عن الثورة العلمية، وهو كتاب أوصيكم بشدة بقراءته.
حتى القرن السادس عشر وجد الناس إجابات عن أسئلة من قبيل "كيف يسير العالم؟"
في الكتب الدينية أو في أعمال الحكماء.
ولكن عندها حدث أمر بالغ الأهمية غير من حياتنا بشكل كبير، ألا وهو الثورة العلمية.
أحد الأمور التي ميزت الثورة العلمية، عن العلم الذي كان متاحًا في ذلك الحين،
هو أولاً وقبل كل شيء الإعلان عن عدم امتلاكنا لإجابات عن هذه الأسئلة.
أي أن العلم قال وببساطة إننا لا نعرف.
نحن لا نعرف إن كان ما تمت كتابته حتى الآن هو بالفعل الإجابة الصحيحة.
علينا البحث عن طريقة أخرى تمكننا من الوصول إلى الإجابة.
هذا الإعلان عن عدم معرفتنا بالإجابة لم يميز القرن السادس عشر فحسب،
فهو لا يزال أحد أبرز سمات العلم حتى يومنا هذا، ربما يبدو الأمر متناقضًا
ولكن الاعتراف بعدم المعرفة هو في الواقع ما يدفع العلم إلى الأمام.
للإجابة عن المزيد والمزيد من الأسئلة والتوصل إلى الإنجازات والمعلومات الجمة التي نعرفها عن العالم اليوم.
إن كنا قد توصلنا إلى إجابات، فلم نواصل البحث والاختبار؟
لأننا لن نكتشف أمورًا جديدة إن نحن توقفنا عن البحث والاختبار.
لا يكفي أن نقول أننا لا نعرف.
علينا أن نجد طريقة للإجابة عن الأسئلة.
إن الإسهام الأهم للثورة العلمية في الواقع هو الأسلوب الذي اقترحته لتفسير كيفية سير العالم.
وفقًا للمنهج العلمي،
حتى نفهم كيف يسير العالم، علينا القيام بالملاحظة والقياس بشكل موضوعي.
لقد كانت هذه فكرة جديدة للغاية، فحتى ذلك الحين تمت الإجابة عن الأسئلة اعتمادًا على
آراء كتاب وحكماء مختلفين، كانت آراؤهم مبنية على اعتقادات دينية أو على
ادعاءات منطقية مستندة إلى البديهية، وليس على معطيات تجريبية، أي
ليس على معطيات يمكن استيعابها عن طريق الحواس وقياسها بأدوات موضوعية.
ما المقصود بالمعطيات التجريبية والموضوعية؟
في مجال علم الفلك، على سبيل المثال، المقصود هو مراقبة الكواكب
بالمقراب لمعرفة إن كانت الأرض تدور حول الشمس أم العكس.
هذا أحد الأمثلة الكلاسيكية التي توضح كيف يمكن للبديهة أن تضللنا.
في الماضي اعتقد الناس أن الكرة الأرضية هي مركز العالم وأن الشمس تدور حولها،
ولكن بواسطة عمليات القياس الموضوعية والتجريبية تم اكتشاف أن الأرض تدور حول الشمس حتى
وإن كان هذا مناقضًا لما تقول به البديهة أو لما هو مكتوب في الكتب الدينية أو في كتابات كبار حكماء تلك الفترة.
ما وجه الشبه بين هذا المثال وبين الاستطلاع الذي أجريناه في الوحدة السابقة عن سلوك الوالدين وأثره على التحصيل الدراسي الجيد للأطفال؟
في الاستطلاع الذي أجريناه وجدنا أن هناك فرقًا بين الإجابات حول العلاقة بين سلوك الوالدين والتحصيل
الدراسي الجيد للأطفال، المستندة إلى الرأي الخاص بكل واحد منها أو إلى
ما تمليه علينا البديهة مقارنة بالإجابات التي حصلنا عليها من جمع معطيات موضوعية وتجريبية.
في بعض الأحيان كانت الإجابات متناقضة.
لماذا يتعين علينا الثقة بالإجابة المستندة إلى معطيات أكثر من الثقة بالإجابة المستندة إلى
منطقنا السليم؟
وبعبارة أخرى، ما هي إيجابيات المنهج العلمي؟
ما الذي يجعل الإجابات التي نحصل عليها باستخدام المنهج العلمي أفضل من جميع الأساليب الأخرى؟
إن ما يمكننا العلم التجريبي من القيام به،
وذلك لاستناده إلى الملاحظة والقياسات الموضوعية،
هو التنبؤ بما سيحدث في المرة القادمة عندما نقوم بالقياس، أي
عندما أستيقظ صباح الغد أو بعد 100 عام فإن الكرة الأرضية ستكون لا تزال تدور حول الشمس، وليس العكس.
وكذلك فعن طريق القياسات الموضوعية والتجريبية
للكواكب السيارة يمكننا التنبؤ بموقعها الدقيق في كل لحظة في المستقبل.
أي أنه بالاعتماد على المعطيات التي جمعناها في الماضي نكتشف
نظرية علمية تمكننا من التنبؤ بما ستكون عليه هذه المعطيات في المستقبل أيضًا.
وهذه هي السمة الأساسية التي تميز المنهج العلمي عن مصادر المعرفة غير العلمية، أي القدرة على التنبؤ.
أيعني هذا أن المعلومات التي اكتشفناها بناءً على جمع
معلومات موضوعية وتجريبية هي الحقيقة الأبدية؟
لا. في العلم نحن نواصل اختبار النظرية
العلمية التي نقوم بصياغتها على الدوام، وعلى خلاف الكثير من المقولات والادعاءات غير العلمية،
نحن لا نقبل باعتبار أي شيء حقيقة أبدية، وإنما نواصل التقدم واكتشاف أمور جديدة.
هذه سمة أخرى مهمة تميز المنهج العلمي
عن مصادر المعرفة الأخرى، التي تدعي دائمًا أنها تقدم الإجابة الأبدية.
النظريات العلمية مؤقتة.
حتى عندما يتوصل العلم إلى اكتشافات مهمة قادرة على تقديم تفسير جيد للظواهر الطبيعية،
فإن العلم يواصل اختبار هذه النظريات على الدوام ويقوم بتعديلها وفقًا للنتائج التي تم التوصل إليها.
نحن نواصل جمع المزيد من المعطيات باستمرار وذلك للتأكد من صحة النظريات الطبيعية التي اكتشفناها.
لماذا يعد هذا أمرًا جيدًا؟
إن كنا نعرف الإجابة عن جميع الأسئلة فلماذا نواصل الاختبارات؟
لأننا إن توقفنا عن الاختبار، فلن نتقدم ولن نكتشف إن كنا قد أخطأنا.
تقع الكثير من الأخطاء أثناء إجراء البحوث العلمية لأسباب مختلفة سواء كانت أدوات القياس غير الدقيقة
التي تنتج عنها نتائج غير دقيقة، بإمكان أدوات قياس أكثر تقدمًا أن تقوم بتعديلها،
أو افتراض خاطئ يجعلنا نفسر نتائج تجربة علمية على نحو ما
لنكتشف فيما بعد أن هناك تفسيرًا أفضل للنتائج من شأنه تفسير ظواهر أخرى أيضًا.
والأمر الذي يميز العلم حقًا هو أنه لا يخجل من أخطائه.
بل على العكس.
عندما يكتشف العلم أنه قد أخطأ فإنه يحتفل بذلك
بل ويقوم في بعض الأحيان بمنح أرفع الجوائز العلمية لمن اكتشف الخطأ.
على سبيل المثال، لسنوات طويلة ظن الباحثون أن الضغط النفسي هو أحد أهم أسباب القرحة الهضمية.
وذهبت النظرية الشائعة إلى أن البكتيريا لا يمكنها العيش في الوسط الحمضي للمعدة،
وعلى خلاف هذه النظرية فقد اكتشف عالمان أستراليان، هما باري مارشال وروبين وورن،
بكتيريا يمكن أن تتواجد في المعدة وهي تسبب القرحة.
وبعد سنوات عدة لم يكن خلالها أي باحث على استعداد للإصغاء لهما، وفي أعقاب البحوث التجريبية التي قاما بإجرائها،
نجح الاثنان في إقناع المجتمع العلمي وحصلا على جائزة نوبل، وهي أرفع جائزة علمية، على اكتشافهما هذا.
وبالفعل يتم اليوم علاج القرحة بواسطة مضاد حيوي بدلاً من تحويل المريض
إلى الأخصائي النفسي أو نصحه بالراحة.
ما العلاقة بين المنهج العلمي وعلم النفس؟
في علم النفس أيضًا يمكننا استخدام نفس المنهج العلمي الذي قدمت وصفًا له،
ولكن ليس من أجل فهم الكواكب السيارة أو البكتيريا.
يحاول علم النفس فهم السلوك والعمليات العقلية
باستخدام المنهج العلمي.
دعونا نعود إلى تعريف علم النفس.
ما يميز علم النفس هو بحث السلوك والعمليات العقلية.
ما المقصود بالسلوك وبالعمليات العقلية؟
يشمل الأمر الكثير من الجوانب التي تقوم في الواقع بتجسيدنا كبشر،
كالتفكير، الذاكرة، اللغة، الاستيعاب، اتخاذ القرارت، الشعور، الذكاء، الشخصية وغيرها.
ولكي نجيب عن أسئلة لها علاقة بالسلوك وبالعمليات العقلية للإنسان،
نقوم بتطوير أدوات كمقراب جاليليو أو كمجهر
الباحثين اللذين اكتشفا البكتيريا في المعدة، ونقوم بملاحظات موضوعية.
ولكن كيف يمكننا القيام بملاحظة موضوعية للمشاعر أو للشخصية أو لاتخاذ القرارات؟
فهذه ليست كواكب سيارة أو بكتيريا يمكن رؤيتها وقياسها.
هذا ما سنتحدث عنه في هذا الكورس.
على علماء النفس أن يتمتعوا بقدر عالٍ من الإبداع والخلاقية لتطوير أساليب
لبحث العمليات العقلية التي نقوم بها بأساليب علمية وتجريبية وموضوعية.
أود أن أعود إلى السؤال المهم: لماذا يعد هذا أمرًا جيدًا؟
لماذا يتعين علينا الاجتهاد والخروج بأساليب علمية تمكننا من بحث أنفسنا؟
فنحن نعرف أنفسنا جيدًا.
بخلاف الأسئلة عن إمكانية العثور على بكتيريا في المعدة أو عن مسار كوكب الزهرة،
حيث لا نعرف أبدًا ما هي الإجابة، جميعنا نشعر، جميعنا نتذكر،
جميعنا نرى ونتعلم ونتخذ القرارات،
فلم لا نسأل أنفسنا إذن عن مبدأ عمل الذاكرة وعن الكيفية التي نشعر بها وكيفية تعلم لغة وعن ماهية الشخصية؟
ولذا ففي علم النفس، أكثر من العلوم الأخرى كالأحياء والفيزياء والكيمياء، هناك
الكثير من مصادر المعرفة غير العلمية، التي لم يتم اختبارها تجريبيًا، والتي تحاول
أن تفسر الكيفية التي نتصرف بها أو نشعر أو نتخذ القرارات وكذلك الطرق التي يمكننا من خلالها تغيير هذه الأمور.
لماذا يعد هذا الأمر سيئًا؟
السؤال المهم الذي يتعين علينا أن نطرحه على أنفسنا عندما نقرأ
هذه الكتب أو نصغي لمحاضرات عن الذاكرة والمشاعر هو مصدر المعلومات.
إن كانت المعلومات مستندة إلى تجارب علمية
فنحن نعرف أنها موضوعية وأنها ستساعدنا على التنبؤ بسلوكنا في المرة القادمة أيضًا.
أما المعلومات التي لا تستند إلى التجارب العلمية وإنما إلى البديهة أو الحدس
الخاصة بنا أو بأشخاص آخرين، فلا سبيل لنا لمعرفة إن كانت صحيحة أم لا.
كما هو الأمر بالنسبة للفلك، إن اعتمدنا على بديهتنا،
فسنتوصل إلى نتيجة مفادها أن الشمس تدور حول الأرض،
في حين أن الملاحظات التجريبية بواسطة المقراب تثبت أن الكرة الأرضية تدور حول الشمس.
ولكن ماذا عن علم النفس؟
ربما تخطأ البديهة فيما يتعلق بالمجموعة الشمسية ولكنها تصيب عندما يتعلق الأمر بالمشاعر والذكريات؟
الإجابة هي لا.
حتى فيما يتعلق بأنفسنا لا ينبغي لنا أن نعتمد على البديهة أو الحدس.
في الوحدة السابقة رأينا أن آراءنا حول العوامل المؤثرة في التحصيل الدراسي الجيد كانت
خاطئة في بعض الحالات مقارنة بالمعطيات العلمية التي قدمت لنا إجابات أخرى.
وهناك أمثلة عديدة في علم النفس، سنتحدث عن بعضها في هذا الكورس،
وتوضح هذه الأمثلة أن البديهة أو الحدس لا تتطابق بالضرورة مع
التجارب العلمية، على الرغم من أننا جميعًا نتذكر ونشعر ولدينا ثقة تامة
بأننا نفهم العقل الإنساني لأنه نحن.
في الوحدة القادمة سنعرض مثالاً آخر للفرق بين استخدام المعلومات المستندة إلى
العلم مقارنة بالبديهة في علم النفس، في مجال العلاج النفسي.