سنبدأ هذه الوحدة بتدريب قصير،
حاولوا تذكر الكلمات التالية: خبز، كعكة،
خباز، كوب، فرن، رغيف، زهرة.
سنعود لهذه القائمة في نهاية الوحدة.
إحدى أهم العمليات المعرفية، بل وربما تكون العملية التي تميزنا كبشر هي الذاكرة.
تتكون ذاكرتنا من مجموعة التجارب التي مررنا بها في حياتنا وكذلك من المعرفة التي اكتسبناها.
تقوم الحواس باستقبال المعلومات، ويتحول جزء منها على الأقل إلى ذكريات يمكننا الإبلاغ عنها.
ولكن هل الذاكرة التي نبلغ عنها مطابقة لجميع المعلومات الداخلة؟
تشير معظم الأدلة إلى خلاف ذلك، فهنا أيضًا تقوم عمليات Top-Down
التي تتأثر بعوامل كالمعنى والسياق وأمور أخرى كثيرة،
بخلق فجوة كبيرة جدًا بين المعلومات التي تدخل إلى العقل والمعلومات التي نقوم باسترجاعها عند محاولة التذكر.
على الرغم من أن لدينا في كثير من الأحيان شعور قوي جدًا بأن ذاكرتنا دقيقة،
فإن الدراسات حول الذاكرة تظهر أن ذكرياتنا غير دقيقة جدًا وأن لا علاقة بين درجة
ثقتنا ودرجة دقة ذكرياتنا.
دعونا نطلع على بعض الأمثلة لتجارب على الذاكرة.
في تجربة كلاسيكية أجرتها الباحثة المشهورة إليزابيث لوفتوس،
شاهد المشاركون فيلمًا يصور حادثًا وقع بين سيارتين.
وبعد الفيلم تم طرح سؤال على المشاركين عن الفيلم.
شملت التجربة مجموعتين من المشاركين،
سئلت المجموعة الأولى عن سرعة السيارة عندما اصطدمت
السيارة بالسيارة الأخرى، (hit) أما المجموعة الثانية فسئلت عن سرعة السيارة
عندما ارتطمت بعنف ,بالسيارة الأخرى (smashed)
بعد أسبوع عاد المشاركون إلى المختبر وسئلوا إن كان زجاج أحد السيارتين قد تكسر.
الإجابة الصحيحة هي لا.
ولكن تبين أن 30% ممن سئلوا في الأسبوع الماضي عن سرعة السيارة عندما
ارتطمت بعنف بالسيارة الأخرى، أجابوا بنعم عن هذا السؤال، مقابل 15%
فقط من المجموعة التي سئلت عن سرعة السيارة عندما اصطدمت بالسيارة الأخرى.
وبالإضافة إلى ذلك رصد الباحثون إجابة المشاركين في كل من
المجموعتين حول سرعة السيارة بعد مشاهدة الفيلم مباشرة.
وتبين أن المشاركين الذين سئلوا عن سرعة السيارات التي "ارتطمت بعنف"، مقارنة ب"اصطدمت"
كان تقديرهم للسرعة أكبر.
أي نتائج التجربة تظهر أن عمليات Top-Down،
التي لا تنتج عن المثير الذي رأيناه والذي يتعين علينا استعادته من الذاكرة،
تؤثر على الطريقة التي نمثل بها المعلومات ونبلغ عنها عندما يتم سؤالنا عنها.
أسمت لوفتوس هذه الذاكرة الذاكرة الإنشائية، Constructive Memory.
يمكن لهذه الذاكرة أن تكون مختلفة تمامًا عن المثير الذي تعرضنا له
ونحن نقوم بإضافة معلومات أخرى لم تكن هناك.
في تجربة لوفتوس، السؤال الذي تم طرحه عن الحادث،
كان له أثر على كيفية تذكرنا له.
وقد أظهرت تجارب أخرى أن هذه الظاهرة تنطبق على الذكريات الذاتية أيضًا.
طلب الباحثون من المشاركين تذكر مناسبة من طفولتهم،
مثلاً، عيد الميلاد الخامس، وخلال المقابلة طرح الباحثون أسئلة عن المناسبة.
دارت بعض الأسئلة حول أمور حدثت خلال عيد الميلاد،
حسب ما ذكره الآباء والأمهات، وعن أمور لم تحدث.
على سبيل المثال، هل كان هناك مهرج في الحفلة؟
في المقابلة الأولى لم يذكر المشاركون أمورًا لم تحدث، ولكن بعد فترة من
الزمن أجرى الباحثون معهم مقابلات مرة أخرى وفي هذه المرة لوحظ أنهم يجيبون عن أمور سئلوا عنها في
المقابلة الأولى بالإيجاب على الرغم من أنها لم تحدث في الواقع.
يمكن القول إن المعلومات التي سئلوا عنها في المقابلة أصبحت جزءًا من ذاكرتهم الذاتية
على الرغم من أنها لم تحدث.
وكلما تمت مقابلة المشاركين مرات أخرى،
نرى أن المعلومات غير الصحيحة بقيت في ذاكرتهم بل إن حجمها ربما يكون في ازدياد.
تثبت هذه التجارب أن ذاكرتنا
تختلف عن المعلومات التي تلتقطها الحواس والتي نتجت عنها الذكريات في الأساس.
ولذا فإن علينا أن نتذكر أن ذاكرتنا لا تشكل توثيقًا مصورًا لما حدث
بل وأكثر من ذلك فقد تكون مختلفة جدًا عما حدث في الواقع.
ما هي النتائج التطبيقية الممكنة لأبحاث من هذا القبيل؟
لهذه التجارب نتائج هامة جدًا فيما يتعلق بروايات شهود العيان،
وبالطريقة التي يتم فيها طرح الأسئلة على الشهود حول ما شاهدوه.
إذ إن لصياغة السؤال تأثير كبير جدًا على ما يرويه الشهود.
هناك سلسلة أخرى من التجارب المذهلة التي توضح الفجوة بين الطريقة التي
نختبر بها العالم في الحاضر وذاكرة التجربة التي تنتج عن ذلك،
أجراها الباحث دانيال كانيمان، وهو عالم نفس إسرائيلي حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد.
في التجربة الكلاسيكية التي أجراها كانيمان طلب من مرضى خضعوا لإجراءات
طبية مؤلمة، أن يبلغوا في كل دقيقة خلال العلاج عن شدة الألم الذي يشعرون به.
أي أن ما نحصل عليه هنا هو رواية مفصلة لما يحدث لحظة حدوثه.
وهذا ما لا نفعله في العادة، فنحن لا نقوم بالإبلاغ عما نمر به لحظة بلحظة.
ترون أمامكم رسمين بيانيين يوضحان شدة الألم الذي شعر به مريضان أثناء خضوعهما للإجراء الطبي.
يمكننا أن نرى شدة الألم في كل لحظة من الإجراء على مقياس من الواحد إلى العشرة.
من برأيكم تألم أكثر؟
للإجابة عن هذا السؤال، قام كانيمان بقياس شدة الألم خلال
الإجراء الطبي واستخدم المؤشرات التالية: الألم في بداية الإجراء الطبي،
شدة الألم في ذروة الإجراء، شدة الألم في نهاية الإجراء الطبي
متوسط ومجموع تقييم شدة الألم، وكذلك مدة الإجراء الطبي.
وبعد انتهاء الإجراء الطبي طلب من المريضين تقييم شدة الألم الذي شعرا به على مقياس من
1-10 ثم فحص العلاقة بين التقييم الذي قدماه خلال الإجراء
الطبي وذاكرة الشعور بالألم بعد انتهاء الإجراء مباشرة، وبعد مرور شهر ثم بعد مرور عام.
أي أننا نفحص العلاقة بين التجربة التي مررنا بها وبين ذاكرتنا.
الرسم البياني التالي يوضح العلاقة بين التجربة نفسها والذاكرة.
ما الذي تظهره النتائج؟
علام تتوقف ذاكرة الألم؟
على مدة الإجراء الطبي؟
على شدة الألم في ذروة الإجراء الطبي؟ على شدة الألم في بداية الإجراء أو في نهايته؟
تبين أن هناك مقياسان يحددان ما نتذكره عن التجربة.
شدة الألم في ذروتها والألم في نهاية الإجراء.
أما الألم في البداية، أو المتوسط والمجموع، ومدة الإجراء الطبي فهي أمور لا تؤثر على ذاكرتنا.
نرى مرة أخرى أن الطريقة التي نتذكر بها التجربة لا تمثل
التجربة كما حدثت بشكل موضوعي، وإنما بعض سماتها شديدة التحديد.
ولا ينطبق الأمر على الشعور بالألم فحسب، وإنما على أمورٍ أخرى أيضًا.
على سبيل المثال، مشاهدة فيلم. تذكرنا للفيلم كفيلم حسن أو غير حسن
يتأثر باللحظة الأفضل أو الأسوأ في الفيلم وبنهايته وليس بمتوسط
أو مجموع الأحساسيس التي شعرنا بها أثناء الفيلم.
التجربتان اللتان عرضتهما عليكم في مجال الذاكرة تترتب عليهما نتائج تطبيقية بالغة الأهمية.
تجارب كانيمان تقترح علينا أساسًا نبني عليه التجارب حتى
تكون ذاكرتنا عنها إيجابية.
مثلاً، إن ذهبتم إلى طبيب أسنان
فمن الأفضل ألا يخبركم بأن عملية خلع الضرس قد انتهت عندما يكون الألم في ذروته،
وإنما بعد عدة دقائق عندما يتوقف الألم وعندها لن تكون ذاكرة الخلع سيئة للغاية.
أما تجارب لوفتوس،
فإن لها آثارًا مهمة على التحقيق مع شهود العيان والشهادات التي يدلون بها في المحاكم.
عندما يبلغ الأشخاص من ذاكرتهم عن حادثة مروا بها،
فإن المحكمة تعامل الأمر كما لو كان وصفًا دقيقًا لما حدث بالفعل.
ولكننا نستنتج من تجربة لوفتوس أنه لا ينبغي أن نعامل الوصف المرتبط
بالتجارب التي مررنا بها على أنها شهادة دقيقة كما لو كنا نصف حدثًا مصورًا.
رأينا أيضًا أن الأسئلة التي يتم طرحها علينا بخصوص الحدث وصياغة هذه
الأسئلة يمكن أن تغير من إجابتنا.
ولذا فإن علينا الحذر من الاعتماد التام على هذه الشهادات المستندة إلى الذاكرة،
وأن نعتمد على معلومات موضوعية قدر الإمكان.
ماذا عن القائمة التي طلبت منكم تذكرها في بداية الوحدة؟
هل وردت كلمة "شطيرة" في القائمة؟
سيجيب المعظم بالإيجاب، على الرغم من أن الكلمة لم ترد في القائمة.
ولكن ورد عدد كبير من الكلمات المرتبطة بها في الشبكة الدلالية، مثل: خبز، خباز، كعكة، وفرن.
هذه الحقيقة تجعلنا نجزم بشكل قاطع في بعض الأحيان أن كلمة "شطيرة" قد وردت في القائمة.
أي أن ذاكرتنا لا تعد مصدرًا موثوقًا به حول التجارب التي مررنا بها في الماضي.