سنتحدث اليوم عن نوعين من الأبحاث التي تتناول المرحلة الحرجة بالدراسة.
الأبحاث التي درست تطور اللغة والأبحاث التي درست النظام البصري.
نبدأ باللغة.
إحدى أشهر الحالات التي تمت دراستها في سياق الفترة الحرجة لتطور اللغة هي حالة جيني.
قام والد جيني بتربيتها مكبلة حبيسة غرفة دون أي اتصال مع البشر تقريبًا.
ولم تكتشف سلطات الرفاه الاجتماعي في مدينة لوس أنجلوس الأمر إلا وهي في سن 13، وعلى الرغم من
أن ذكاءها كان طبيعيًا إلا أنها لم تتمكن من تعلم اللغة بمستوى يفوق مستوى طالب في الصف الثالث.
مثال جيني هو من الأمثلة النادرة جدًا والمغالى فيها بحيث ليس من الواضح تمامًا إلى أي حد
يمكننا أن نخرج منه باستنتاجات حول تأثير الحرمان من التعرض للغة على التطور اللغوي الطبيعي، لأن الحرمان
الذي عانت منه جيني التي نشأت وحيدة حبيسة غرفة لا يقتصر على الحرمان من اللغة فقط.
هناك أمثلة أخرى يكون فيها الحرمان من اللغة أكثر تحديدًا كما في حالة الأطفال الصم الذين
يقوم بتربيتهم آباء وأمهات يسمعون ولا يستطيعون التواصل معهم بلغة الإشارة.
ونتيجة الصمم فإن هؤلاء الأطفال لا يتعرضون للغة المنطوقة ولا يتعلمون لغة
الإشارة إلا في سن المدرسة.
ومن الجدير بالذكر أن لغة الإشارة هي لغة غنية ومعقدة بجميع المقاييس
وتحتوي على الكثير من خصائص اللغة المنطوقة
ولذا فإن عملية التطور الطبيعي للغة الإشارة تمكننا بكل تأكيد من الخروج باستنتاجات حول
عملية تطور اللغة بشكل عام.
الأبحاث التي تم إجراؤها على أطفال تعرضوا للغة الإشارات في أعمار متأخرة
تظهر أن بعض قدراتهم اللغوية كالمفرادات أو الترتيب الصحيح للكلمات
في الجملة لا تتأثر بسن تعرضهم للغة بحيث يتمكن هؤلاء الأطفال من اكتساب
هذه القدرات حتى إن كان تعرضهم الأول للغة الإشارة قد حدث في سن 10 أو 12 عامًا.
أما تطور جوانب لغوية أخرى كالقواعد اللغوية
فيتطلب تعرضًا للغة في سن مبكرة.
كما أظهرات دراسات أخرى أجريت على أطفال لآباء وأمهات يسمعون ولم يتعرضوا للغة
الإشارة في سن مبكرة أن هؤلاء الأطفال يقومون من تلقاء أنفسهم بتطوير لغة إشارة.
أطلق الباحثون على هذه اللغة اسم Home Sign.
وما يميز هذه اللغة هو أنها اللغة الوحيدة التي تطورت دون تعرض للغة ودون تواصل بين الأشخاص وإنما
كنتيجة لحاجة الطفل للتواصل مع البيئة المحيطة به دون أن يتعرض للغة يتحدثها المحيط الذي ينشأ فيه.
وبالإضافة إلى ذلك تبين أن لغة Home Sign تختلف عن إشارات اليدين التي يقوم بها الوالدان
للتواصل مع أطفالهما.
أي أنها لم تتطور نتيجة تعلم الطفل أسلوب التواصل الذي يستخدمه والداه.
هي على ما يبدو اللغة الوحيدة التي تطورت home sign دون تعلم من البيئة المحيطة وإنما من قبل الناطق بها فقط.
وعلى الرغم من ذلك فإنها تحتوي على سمات تتميز بها اللغات العادية أيضًا ومن المذهل أن
بنية اللغة متشابهة لدى أطفال نشأوا في دول مختلفة كالصين أو الولايات المتحدة أو تركيا.
كما يعد تعلم اللغة الثانية مثالاً لتأثير سن التعرض على تطور اللغة.
في بعض الأحيان يتعرض الأطفال للغة ثانية في سن مبكرة، بل وفي سن الرضاعة.
وقد أظهرت الأبحاث أنه طالما كان التعرض للغتين يستمر سنوات فإن
الطفل سيجيد اللغتين.
ولكن ماذا يحدث إن كان التعرض للغة ثانية أو ثالثة بدأ في سن متأخرة كما يحدث في أغلب الأحيان؟
تظهر الأبحاث بالفعل أنه كلما كان العمر أكثر تقدمًا عند تعلم لغة ثانية فإن مستوى إجادتها يكون أقل.
ولكن أيعني هذا أن هناك فترة حرجة إن تعلمنا اللغة قبل الوصول إليها
فسوف نجيدها إجادة تامة وإن تعلمنا اللغة بعد هذه الفترة فلن نجيدها إجادة تامة أبدًا؟
على الرغم من أنه لوحظ أن تعلم لغة ثانية هو أسهل بالنسبة للأطفال منه للبالغين،
فإن الأبحاث التي أجريت في السنوات الأخيرة تشير إلى أنه لا يمكن تحديد عمر معين
خلال النمو يحدث بعده انخفاض نوعي في القدرة على إجادة لغة ثانية.
ولقد تبين في حقيقة الأمر أن الفرق بين القدرة على تعلم لغة ثانية بين الأطفال
والبالغين ناتج عن انخفاض في المهارات المعرفية العامة المرتبطة بالقدرة
على التعلم والتذكر وليس من صعوبات ناتجة بالتحديد عن نظام تعلم اللغة.
من العوامل الأخرى التي تجعل من الأطفال أكثر قدرة على إجادة لغة ثانية من البالغين
عوامل ذات صلة بالفروق النوعية في أسلوب تعلم اللغة في الأعمار المختلفة.
إذ إن الأطفال يتعرضون في العادة إلى تراكيب لغوية سهلة بينما يتعرض البالغون لتراكيب لغوية معقدة،
وعلاوة على ذلك فإن الأطفال يتعرضون للغة الثانية في إطار تعليمي في المدرسة بينما يتعرض البالغون
للغة الثانية في حياتهم اليومية وفي العمل دون أن يكون هناك إطار تعليمي منظم.
وأخيرًا، ولأن الأطفال يتواجدون في إطار تعليمي فإن
تعرضهم للغة الثانية واستخدامهم لها يكون في أحيان كثيرة أكبر بكثير منه عند البالغين.
على سبيل المثال، حاول بحث قارن بين مهاجرين كوريين قدموا للولايات المتحدة في
أعمار تتراوح بين سنة و 23 عامًا دراسة هذه العوامل المختلفة.
وأظهرت نتائج البحث أنه كلما زاد تعرض البالغين للغة الثانية في إطار تعليمي
منظم وكلما زاد استخدامهم لها في حياتهم اليومية فإن التعرض المتأخر
للغة الثانية لا يؤدي بالضرورة إلى إجادة اللغة الثانية بمستوى أقل.
وقد تبين في الواقع أن المكون اللغوي الأكثر تأثرًا بسن التعرض هو اللكنة،
أي الجانب النُطقي من اللغة.
وعلى ما يبدو فإن هناك فترة حرجة في هذا الجانب لا يمكن بعدها اكتساب اللكنة بمستوى اللغة الأم،
بغض النظر عن مدى التعرض للغة أو الإطار التعليمي الذي يتم تعلم اللغة فيه.
هناك مجال آخر تمت فيه دراسة تأثير التعرض للمحيط على النمو الطبيعي وهو مجال البصر.
فقد أشارت دراسات أجريت على الحيوانات في الماضي أن الحرمان
من مثيرات بصرية في الأشهر الأولى من الحياة يضر بجهاز الرؤية بشكل لا يمكن إصلاحه.
قام بإجراء هذه الدراسات العالمان الحائزان على جائزة نوبل هوبل وفيزل.
ووفقًا لإحدى الدراسات المدهشة التي أجريت في السنوات الأخيرة حول هذا الموضوع
ففي بعض الأحوال وبعد سنوات طويلة من فقدان البصر تبقى الكثير من القدرات البصرية على حالها.
تجرى هذه الأبحاث في إطار مشروع "براكاش" الذي يقوم به الباحث بافان سينها من جامعة MIT.
تعني كلمة "براكاش" في اللغة السنسكريتية "النور" وفي إطار هذا المشروع الخيري
يتم إجراء عمليات جراحية لإعادة البصر لمكفوفين في مناطق قروية في الهند.
ويمكن علاج 40% من حالات العمى في الهند بواسطة عملياتٍ جراحية بسيطة نسبيًا.
هذه العمليات موجودة ويتم إجراؤها بشكل اعتيادي في الغرب ولكن ليس في هذه الأماكن النائية.
في الكثير من الأحيان تتلخص المشكلة في وجود الماء الأبيض الذي يغطي العدسات داخل الحدقة ويؤدي إلى فقدان البصر.
ينشأ هؤلاء الأطفال وهم مكفوفون منذ الولادة على الرغم من أن بالإمكان حل هذه المشكلة بواسطة عملية جراحية
بسيطة نسبيًا يتم إجراؤها في الغرب في سن الرضاعة إن دعت لذلك الحاجة.
ونظرًا لأنه في كثير من الأحيان في مشروع "بركاش"يتم إجراء العملية في سن متأخرة نسبيًا
يمكن فحص جهاز الرؤية بعد العملية للتعرف على مدى الضرر الذي ألحقه الحرمان من البصر بعمليات الإدراك المختلفة.
أي أن من شأن هذا النوع من الدراسات الإجابة عن سؤالين مهمين.
أولاً، هل التعرض المبكر ضروري لتطور طبيعي لجهاز الرؤية، أما السؤال
الثاني فهو إن كانت هناك فترة حرجة لا يمكن بعدها لجهاز الرؤية القيام بكامل وظائفه.
في إطار أبحاث البروفيسور بافان سينها يتم إجراء الكثير من الاختبارات المختلفة
حول وظائف جهاز الرؤية، وتتراوح بين اختبارات حول حدة الرؤية، والإدراك،
والحركة واختبارات تقوم بفحص القدرة على إدراك الأجسام المختلفة.
دعونا نستعرض مثالاً لاختبار القدرة على إدراك الأجسام.
إن طرح عليكم السؤال التالي: "كم جسمًا ترون في هذه الصورة؟"، فبم ستجيبون؟
على الرغم من أن بعض الأجسام مغطاة فنحن نستطيع أن نحدد عدد الأجسام
وذلك لأننا نميز هذه الأجسام.
في هذا الرسم مثلاً هناك مستطيلان يغطيان بعضهما البعض.
تم عرض صور كهذه على ثلاثة مكفوفين من سن الولادة خضعوا لعمليات لإعادة البصر
في أعمار 7 و 13 و 29.
عند عرض مثير كهذا على مكفوفين منذ الولادة بعد العملية مباشرة نلاحظ أنهم
لا يجدون صعوبة في تمييز وجود جسمين في الرسم إن كانت الأجسام غير متداخلة.
أما عندما يعرض عليهم جسمين متداخلين فإنهم يقولون أن الرسم يحتوي على ثلاثة
أجسام وليس على جسمين كما كان سيقول الأشخاص ذوو الرؤية الطبيعية.
ويمكن للمكفوفين الذي استعادوا البصر معرفة أن ما يشاهدونه هو جسمان
إن قمنا بتحريك الجسمين باتجاهات مختلفة.
أي أن التلميح باستخدام الحركة يشكل معلومات مفيدة تساعد على تمييز الأجسام
حتى دون التعرض المسبق لها.
وعلاوة على ذلك نلاحظ حدوث تحسن كبير في الأداء بعد عدة أشهر من إجراء العملية،
حتى لدى الشخص الذي أجريت له عملية لإعادة البصر في سن 29، ويصل هؤلاء الأشخاص لأداء يكاد يكون مثاليًا.
وهكذا فإن مشروع "بركاش" ينطوي على أهمية طبية وإنسانية
لأنه يعيد البصر للأشخاص الذين ولدوا مكفوفين.
كما أنه يمكن العلماء من الإجابة عن أحد الأسئلة الأصعب في دراسة العقل وهي
أهمية المحيط في عملية النمو الطبيعي ووجود فترة حرجة في عملية النمو.
نلخص بالقول إن النمو هو عملية متعددة المراحل وأن ترتيب المراحل يتحدد بشكل فطري.
يمكن للمحيط أن يعجل أو أن يثبط هذه العملية ولكن لا يمكنه المس بها بشكل تام.
حتى في الحالات المغالى فيها عند الحرمان من التعرض للغة أو الحرمان من البصر فإن دماغنا يمتلك
الأدوات اللازمة لتطوير هذه القدرات وتحقيق أداء جيد حتى دون التعرض للمحيط.